سورة هود - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثَنَّى بذكر السُّعَداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت قلوبهم وعَملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسموات، وهم في ذلك خالدون، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، وينامون ولا يتغطَّون، ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رَشْحُ مِسك يعرقون.
ثم ضرب الله تعالى مثل الكافرين والمؤمنين، فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي: الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين السُّعَداء، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع. فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا، وفي الآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجَج، فلا يسمع ما ينتفع به، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وأما المؤمن ففَطِن ذكي لبيب، بصير بالحق، يميز بينه وبين الباطل، فيتبعُ الخير ويترك الشر، سميع للحجة، يفرق بينها وبين الشبهة، فلا يَرُوج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تعتبرون وتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، كما قال في الآية الأخرى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وقال {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 19- 24].


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
يخبر تعالى عن نوح، عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عَبَدة الأصنام أنه قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: ظاهر النّذَارَة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله؛ ولهذا قال: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} وقوله {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عَذَّبكم الله عذابا أليما مُوجعًا شاقًا في الدار الآخرة.
{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} والملأ هم: السادة والكبراء من الكافرين منهم: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك؛ ولهذا قال: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: في أول بادئ الرأي، {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق، ولا رزق ولا حال، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي: فيما تَدَّعونه لكم من البر والصلاح والعبادة، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح، عليه السلام، وأتباعه، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم {بَادِيَ الرَّأَي} ليس بمذمة ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي. والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح.
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة، غير أبي بكر، فإنه لم يَتَلَعْثَم» أي: ما تردد ولا تروَّى، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.
وقولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عُمْي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون: بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون، الأقلون الأرذلون، وفي الآخرة هم الأخسرون.


{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على يقين وأمر جلي، ونبوة صادقة، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، {أَنُلْزِمْكُمُوهَا} أي: نَغْضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8